رحلت حبيبتي

رحلت حبيبتي، فجفت أنهاري، واشتعلت غاباتي، وهاجرت طيوري نحو الشّمال قبل مواسم الشِّمال، ولـما عرفت أنّها سكنت الغياب، وأنه لم يبق لي منها إلا جديلتها وأوراقها، انتحر نومي وسكوني وانتشر الألم القاتل في كامل عـروقي وبنـى الدمع معبده بجفوني.
بعدك يا صغيرتي، أصبحت تائها في الأيام، بعدما كنت أظن كالشاعر الأحمق أني سأتخذ من راحتيك قلاعي ومدني، وكنت أظن أني سأتخذ من عيـنيك معـبـدي وسكني، وكنت أظن أني سأتخذ من شفتيك الجميلتين حقول خمري وجنوني، وكنت أظن وأظن وكنت أحب ظنوني.
يا امرأة، تحمل في نظراتها قضائي وقدري ارحميني، فقد عثرت هذا المساء على صورتك بين أغراضي، فثار جنوني، وتفجرت عاطفتي، واشتعلت بالداخل نيراني، فحملت خنجرا وخطيت اسمك على يدي... فارتجفت ألما، ثم حفرت اسـمـك في صدري.. فبكى صدري دما، ثم كفرت بالآداب ووسمت اسمك كآية كريمة على جبيني.
وبعدك حبيبتي، استعمرني اليأس، فغيّر دستور مملكتي، وسلبني هيبتي، وحطم تيجاني، بعدما، بنـى معسكره بشرياني.. وتأكدي سيدتي الجميلة، أنهم مهما شيّدوا لكي غاليا، فلن تجدي مثلي، أنا الذي أسكنتك في دمي وفي أعصابي وفي وجداني.
لقد عشقتك كأسا سحريا أرشف منه بقائي، وعشقتك باقة ليلية أستنشق منها لذتي وسعادتي، وعشقتك فراشة سماوية وأرسلت معها أحلامي.
لقد قضيت قـربك سويعـات حب صباحية الطعم والإحساس، فمرت الأيام كالأحلام، والحديث كالموسيقى، والصمت كالوحي.. فوجودك قربي كان إله أرضي الذي يحييني، ويمدني بالشعر والاكتفاء والرجاء والاستغناء.
لقد زاد حبي للحياة منذ سكنت وجداني، وظهرت في الأفق عوالم وردية كلها الهناء والصبا، فلما لا تعودي إلي ونخلد في ريـاض الحـب، نقطـف ثماره المعلقة ونتبـادلها، ونغترف من ينابيعه المكسرة بكفي بعضنا، ونتمدد على عشبه النديّ.. أذوب فيك وتذوبين فيّ حتى الدّوار، حتى الجنون.. لكن واقعي الآن غير ذلك، فبتّ أنعزل في غرفتي الموحشة، والسّكون يختفي، لا ضوء.. لا حياة، أرسم اسمك على أوراقي الباردة بكل لون وشكل.. ثمّ أخط حروفه المرتعشة على صدري علَّـها تسكنه.. ولكن لا ألبث أن أراه يبكي دما ساخنا.. هو أيضا بائس ومسكين، أصرخ باسمك في لجة الليل الصامت.. ولكن أين أنت؟ فكل جدران المدينة بصداها اللعين تطوّق آهاتي وأنيني وتردها على وجهي كي لا تصلك.. هي أيضا لا تشفق عليّ، فأجلس والورى نيام، ويسبح عقلي كعصفور مبتدئ في آفاق خيالات لا متناهية... ثم يعود إليّ منكسر الخاطر، مكل الجناحين، تقتله الخيبة، فأبكي ما شاء الله أن أبكي، ثم أتمدد كالميت الحي، وينطلق لساني الشارد يقدسك ويناجيك بتسابيح مبعثرة... و لا يتسلل ضوء الصباح إلى غرفتي إلاّ وقد مت في ليلة واحدة مرات ومرات.
أنا لم أكن أعرف يا سيدتي، أن موتي يسكن في جفونك، وأني سوف أصبغ كل أشيائي بدمعي، وأني سأبقى بعدك أحيا كالملك المسلوب أملاكه... أندب كالعصفور المحطم عشه، ولم أكن أعرف أنك نقطة محوري، وبدونك سيضطرب نظام كواكبي وأتيه فضاءات مظلمة.
لقد رحلت، وتركتني لا أخرج من صمت إلا لأدخل في صمت ثاني، شبحًا عنيدا يقاتل الزمان، خيالا شاحبا ينزف في كل مكان، وكان الأجدر بيّ المكوث على سريري الخشن لمداواة جرحي وعلاج سقمي. ولكن كيف أفعل وهل أسكن، وقلبي اليائس يمارس داخل صدري مأتما مهيبا.. لقد حولتني إلى شخص محطم ومسلوب يرافع كل مساء إلى محكمة ربه جرمك، ويسأله الإنصاف.. ترى كيف أمارس حياتي الآن وكل حواسي أسرى في بلادك البعيدة.
إني أستحلفك بالحب المميت والباعث أن تعدلي عن قرارك، وعن حكمك القاسي.. يا من جعلتني أضع متهيبا حبري ودموعي ودمي على ذات الورقة.
أنت، ويا سر رياحي، ويا سيدة أمطاري، متى تجمعني بك الأقدار؟ فما أمرّ الانتظار، وما أقسى الدهـر علي، سأختـزل الساعات والأيام، وسأطـوي بـرد الزمـان، لأستعيد خضرة غاباتي وزرقة بحاري.. وإلى ذلك اليوم حبيبتي سأتهادن مع سلطان الهوى، وسأبكي بين يدي الزمان كالطفل المجروح: ألاّ عجل فالساعات ركام على صدري، وأشباح حزني وبرك دموعي تريد أن تخنقني.

يسلمــــــــــــــــــــــــــــــــــو خالتوووووووووووووو

ربي يسلمك خالتو
مشكور لمرورك وتقبل تحياتي